الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
الإتقان ثمرة التخطيط ، وكلّما ارتفع إحكام التخطيط ، إرتفعت درجة إتقان العمل باطّراد ، وأعطى النّتائج المرجوّة منه على جميع المستويات الماديّة والمعنويّة .
لو سأل كلّ واحد فَشِلَ في تحقيق هدف من أهدافه نفسه : لِمَ فشلتُ ؟ ثمّ شرع يبحث عن الخلل ، لَوَجدَ أنّ النّسبة الرّئيسيّة في فشلِه هو عدم التّخطيط . فالطّالب المتعثّر في دراسته ، والتّاجر الذي خرج من تجارته بدون طائل ، والمتذمّر من سوء سلوك أولاده ، والمشتكي من تصميم بيته الذي شيّده ، أو فساد عطلته ، أو إهدار وقته الخ... ، مرّوا أثناء إنجاز مشاريعهم بغير سبيل التخطيط ، وسلّموا أزمّة أهدافهم إلى مرحلة ارتجال ، أو تهاون ، أو غفلة ، لا مبرّر لها .
وكلمة التخطيط جارية على كلّ لسان ، ولها وقْعٌ شجيّ على الوجدان والعقل معاً ، مقبولة الذّكر من الجميع ، لكنّ ذلك في جلّه واقع بالقول وفي الأماني ، وإن وقعَ فلا يكاد يمسّ سوى الخطوط العريضة من الهدف ، التي هي أقرب إلى أدنى الضّرورات . أمّا ما عداها فهي فوضى وتسيّب ، وأكداس من الأخطاء الفنّية لا تورّث إلاّ خيبة الأمل .
ليس التخطيط نزوة نفس صفا مزاجها لفترة ففعلته استمتاعا ، لأنّه استمتاع يعقبه خبو ، وما بعده إلاّ الرماد ، وهو كذلك ليس موضة جهّزها الغير لمآربه فاغتنمناها فرصة نحاكي بها المتحضّرين ، ونتباهى بها على المتخلّفين . إنّ التخطيط علمٌ وفنٌّ ، له قواعده وأسسه ، ولا يعطي أقصى مردودية له إلاّ إذا تحوّل إلى ثقافة وتقليد واسع النطاق ، راسخ رسوخ المعتقدات . هو عمل ، وتربية ، وتجربة ، ورياضة ، وهو بالقياس إلى المجتمعات معيار دقيق لمدى التحضّر ، والجديّة ، والتطلّع إلى الأحسن .
كلامي اليوم عن التخطيط الفردي البسيط الذي لا يحتاج إلاّ إلى عقل عاديّ موضوعيّ ، وإلى نسبة من الرّزانة تسمح بمنع كلّ حركة قبل التفكير . وقد يفسح الله تعالى في العمر وفي الوقت فنتحدّث عن التّخطيط المعقّد نسبيّا ، ودوره في في إحداث هذه القفزة الجبّارة للحضارة ، وفتح أبواب التقدّم والسّيطرة أمام بعض المجتمعات والشّعوب في العالم .
كيف نخطّط
التخطيط - كما يدلّ عليه اسمه - هو إعداد واستعداد مسبق لتحويل فكرة مشروع من حالة النظر إلى حالة الوجود الموضوعي . هو ترك أثر لا يمحى على ورقة ، أو لوح ، أو سبّورة ، لوقتٍ كافٍ لتدبّر تفاصيل المشروع ، وتصوّر تفاعلها مع بعضها البعض ممّا يعسر وقوعه اعتمادا على الذهن والذّاكرة فقط .
قـاعـدة
إحضار ورقة وقلم ، واختيار المكان الهادئ ، المساعد على التركيز .
قد يستخفّ البعض بمسألة الورقة والقلم ، لكنّنا نتمسّك بها لأنّ فائدتها تكمن أوّلا في ضمان حفظ نتائج الإستنتاجات الكثيرة التي لا يمكن أن تبقى كلّها عالقة بالذهن ، وثانيا في شمولية الرّؤية المساعدة على تعديل دور كلّ جزئية بالنسبة لبقية الجزئيات في كلّ مرّة يلاحظ المعنيّ أنّ الإنسجام قد اختلّ ، أو أنّه لا يزال منقوصا .
مقوّمات المشاريع
المشاريع ألوان وأشكال وذات طبائع لا حصر لها ، ووسائل إنجازها كثيرة ومختلفة ، لكنّها كلّها تشترك في مقوّمات لا مفرّ من توفّرها كي تنجح . إنّها - في نظري - أربعة عوامل رئيسية :
الموضوعية
صفة يجب أن ترافق جميع مراحل إنجاز المشروع . إنّها الصّدق مع النّفس في تقييم الممكن من قدراتك الماديّة والمعنويّة كي تنطلق مرتكِزاً على قاعدة صلبة ، وعلى بيِّنة من أمرك ، لا تخشى أن يفاجئك مجهول أثناء تقدّمك .
الوقت
ونقصد به تحديد الوقت الإجمالي لتنفيذ المشروع ، وكذلك أقساط التّوقيت وفقا للمواعيد والمراحل .
المرحلية
وهي تقسيم المشروع إلى مراحل حسب طبيعته وظروفه الخاصّة ، قصد إلقاء نظرة فاحصة على ما أُنجِز عند نهاية كلّ مرحلة ، وإدخال ما يجب من إصلاحات قبل التوغّل أكثر . وهي - أيّ المرحلية - ضرورية لتخفيف حمل العمل ، والتّرويح عن النفس .
الجدّيّة
وهي تناول جانب المشروع المطلوب إنجازه من غير تشعّبٍ أو خروجٍ عن الموضوع . وهي أيضا النّفَس الطّويل المصحوب بالتّعب وتوطين النّفْس عليه بشيء من الصّبر .
وتبقى - طبعا - تفاصيل التّطبيق الخارجة عن الحصر والتصنيف ، لكنّها جوانب غير مستعصية إذا تمّت السيطرة الحقيقية على النّقاط الأربع المذكورة .
تطبيقـات
وسنقدّم الآن أمثلة تطبيقية جاهزة لبعض مناحي نشاطات النّاس ، قابلة للإستعمال . ولا يخامرنا شكّ في أنّها ستعطي نتائج مضمونة بإذن الله إذا أخلص منفّذوها ، وكانوا فعلا في مستوى حسن الظنّ الذي نعهده في الكثير .
i - مراجعة الدّروس المقرّرة طيلة السّنة الدّراسية
الموضوعية
*
هي القبول بإيمان واقتناع بأنّ الله تعالى قد جعل جزءاً كبيرا من حاجاتنا بأيدي غيرنا ، وعدم الإحجام أو التردّد في الإنطلاق للبحث عن المرغوب عند من يملكه إذا افتقدتَه عندك ، ولو كلّفكَ تجرّع مرارة الإتّصال بمن تكره ، وتذكّرْ أنّه الجسر الوحيد لتعبر وتستمرّ .
*
إعترِفْ بقدرتك الذّهنية بشجاعة ، وضعْ نفسك في المرتبة التي تحسّ أنك أهل لها ، واللاّئقة بك ، ولا تنخدع بالمقارنات الزّائفة التي لا تعكس سوى مجاملات ذاتيّة ، وتذكّرْ أنّ تلك المرتبة ، وإن كانت أقلّ من غيرك ، فإنّها قابلة للتّحسين والتّطوير بالعمل ورياضة النّفس .
الوقت
يجب أن يكون الوقت محدّدا بدقّة : بداية المراجعة ومدّتها . وتضبط المدّة وفقا لقدرة الطّالب على الإستيعاب والفهم من ناحية ، وإلى نوع المادّة المراجَعَة . ولا شكّ أنّ وقت مراجعة المواد التي تعتمد على الفهم وحده ، وحلّ التّمرينات ، يكون أكبر منه في التي يكفي فيها الفهم المباشر مع الحفظ .
لا بدّ أن يحدّد الطّالب لنفسه فترات مختلفة الطّول لا تزيد على ثلاثة ( 03 ) للمراجعة .
ليس شرطا آكدا أن تكون البداية دائما في نفس السّاعة ، لكننا نشير إلى أنّ هناك أوقاتا من المستحسن تحرّيها ، وهي : بعد قيلولة ، إذا كانت فترة بعد الظهر في المدرسة فارغة . بعد وجبة العشاء مباشرة . وفي الصّباح إذا كانت أوّل فترة دراسية تبدأ متأخّرة عن البداية المعتادة للمؤسّسة . لكن الذي نميل إلى جعله وقتا معتادا للمراجعة هو : بعد صلاة العشاء وتناول وجبة العشاء . ويجب الإعتدال في اختيار المدّة ، لأنّ من شأن المبالغة في الإطالة التوقّف النهائي .
الزّمن
بعد العِشاء والعَشاء .
المدّة
*
من 30 إلى 45 دقيقة للحفظ وفهم النّصوص .
*
من 45 إلى 60 دقيقة لدراسة وتحليل النّصوص الأدبية والفلسفية .
*
من 60 إلى 90 دقيقة لمراجعة المواد العلمية الدّقيقة : رياضيات ، فيزياء ، كيمياء ، وإنجاز ما يكفي من التّطبيقات للسّيطرة على التفاصيل النّظرية .
ولا نقصد بالمداومة أن تتواصل المراجعة طيلة أيام الأسبوع كاملة دون توقّف ، ونرى أنّ خمسة أيّام على المنوال الذي ذكرناه كافية كي يكون الطّالب دائما مواكبا للبرنامج . أما يوما الرّاحة المقترَحان فيجب أن يكونا متباعدين ، ويكون يوم عطلة أخر الأسبوع أحدهما .
عدد أيّام المراجعة
خمسة أيام
عدد أيام الرّاحة
يومان متباعدان ، يكون يوم عطلة آخر الأسبوع أحدهما
المرحلية
هي في هذا الميدان ما بعد مواعيد الإختبارات ، وظهور نتائج الإمتحانات . إنّها الفرصة المناسبة للتفكير مليّا وبرويّة في ما هو مُرضي من العمل ، وما يدعو إلى إعادة النّظر للتّصحيح .
الجدّية
هي الضامنة للتغلّب على الكسل ، والإنجذاب إلى الدّعة . وليعلم كلّ طالب أنّ الطّاقة اللاّزمة هي مجرّد دفقة تعطي دفعة للإنطلاق ، ثمّ يصبح الإستمرار تلقائيّا ، بل وترافقه متعة .
وهي كذلك ضامنة للتغلّب على صعوبات إيجاد المعلومة المناسبة أثناء العمل لإكمال حصّة المراجعة ، أو تذكّرها قبل البداية لكن وُجِد من الأسباب الوجيهة ما يحول دون الوصول إليها .
هذه نقطة مهمّة لا يجب التهاون بها ، لأنّ كلّ جزء غير مفهوم من برنامجك قد يكون بابا تهبّ عليك من خلاله رياح الخيبة . ولذلك ننصح الطّالب بتسجيل ما عسُرَ فهمه . وإذا كان السبب غير متعلّق بالفهم ، كعدم القدرة على اقتناء مرجع ، أو تعذّر الخروج ليلا ، فالواجب عدم التماطل بعد زوال الأسباب .
احترام المدّة المعيَّنة لكلّ قسم من المراجعة ، والتوقّف عند انتهائها ، لأنّ تحديد نهية للعمل مدعاة للرّاحة النفسية ، وإزاحة الخوف من المجهول . تحديد النهاية يعني القدرة على برمجة الوقت ، وإعطاء انسغالات الحياة الأخرى نصيبها . إنّه ممارسة للعدل مع النّفس ، وإحساس به من شأنه شحن صاحبه بقوّة إقبال طيّب ، وتفرّغ فعليّ للمراجعة بذهن صاف وحاضر .
والجدّية أيضا تضحية من أجل العمل المنظّم ، وتحقيق الأهداف السّامية . ولا أقصد بالتّضحية ـ هنا ـ إشعال ثورة ، وإنّما أقصد التضحية ببعض المألوفات ، والضّغط قليلا على النّفس لتتأقلم مع واقع به جفاف وصلابة . ونطمئن كلّ طالب بأنّ النسبية في الأمور كفيلة بإحلال الوضع الجديد مكان الوضع القديم ، وتتحوّل تلك الصلابة الخفيفة إلى نمط عيش محبوب ، وحتى في حال فشل في تحويل وضعه المعهود ، ولم يجد للإنسجام مع الجديد سبيلا ، فليتحمَّلْه تكلّفا ولا يخشى عنتا لأنّه واقع يدوم وقتا قصيرا ، وتساعده على تحمّله دوافع النّجاح .
وننصح الطالب أن لا يقرن بين قسمين أو أكثر من أقسام المراجعة المذكورة قدر الإمكان ، كأن يراجع اللغة أو التاريخ ، ثم ينتقل إلى الرّياضيات ، لأنّ لكلّ صنف تأثير معيّن في النفس والإستعداد ، وأنّ المادة التي بعد تكون في غالب الأحيان ضحيّة للسّطحية وعدم التركيز .
وليس شرطا أن تكون المادّة المراجَعَة اليوم هي التي المبرمجة في الغد ، لأنّ مشروع المراجعة ليس فقط للإمتحانات ، ولكنه تكوين يهدف إلى التمكّن من المعرفة ، ونقشها في الذّاكرة ، واستغلالها في المستقبل البعيد . إنّ من فَهِمَ اليوم فَهْماً صحيحا بمقدوره خوض امتحانات بعد سنة مع قليل من المراجعة .
ii - المراجعة لتحضير امتحان نهائي ( الأهلية ، البكالوريا ) .
الإختلاف في الإمتحانات هو اختلاف في أهميّته المستقاة من أهميّة المرحلة التي يؤدّي النجاح فيه إليها ، أمّا من حيث كونه امتحان فهو كمثل غيره ممّا يُمَارَس دوريّا طيلة سنيّ الدراسة .
تخلق أهميّة الإمتحان ظروفا تحيط بالطّالب ، وتؤثّر على نفسيته وسلوكه تأثيرا سلبيّا كابحا ، يَقوى ويضعف حسب طبيعته وتكوينه . وتبرز في مثل هذه الأوقات الحاجة المُلِحّة لإشرافٍ مكثّفٍ من قِبَلِ المؤسّسة متمثّلة في الأساتذة ، ومن قِبَلِ البيت متمثّلة في الوالدين ، وكبار الإخوة والأخوات ، كلٌّ حسب اختصاصه ومؤهّلاته ، بوتيرة سريعة التردّد تحول دون وقوع الطّالب فريسة لضعفه ، وأفكاره الخاطئة .
المساندة الصّحيحة ، ورفع المعنويات بالتّوجيه الموضوعي ، من شأنه تعديل مفهوم الإمتحان لدى الطّالب ، وتحويله من عدوّ لدود مرهوب ، إلى صديق محبوب بيده مفاتيح أبواب المستقبل ، ورهن إشارته لفتحها على مصاريعها .
إنّ امتحان الأهلية أو البكالوريا ليس بدعا من الإمتحانات - كما قلنا - وإنّ محتوى ورقة الأسئلة في أيّ مادّة كانت ، في مدرسة حيِّكَ أو بلدتكَ ، بين زملائكَ ورفاقكَ ، لن يختلف عنه في ورقة امتحان الأهلية أو البكالوريا ، ولهذا السبب نحن نركّز على المراجعة المستمرّة الدّائمة طيلة السّنة ، وفي كلّ المستويات ، لأنّ فيها رياضة على العمل ، وتدريبا على أنماط سليمة من التّفكير والمهارات ، وإحاطة بالضّروري من المعارف ، بحيث تكون حاضرة ، أو سهلة المعالجة والممارسة في كلّ حين ، وهذه في حدّ ذاتها هي أسس الثّقة بالنفس ، والوسيلة المُثْلى الصّادقة لتقدير الإمتحان حقّ قدره بلا زيادة ولا نقصان .
خطّتك في المراجعة العاديّة لن تتغيّر كثيرا ، والتّغيير القليل الحاصل يمسّ الكمّ أكثر من الكيف باعتبار أنّ البرنامج المدروس ينطبق عليه ما انطبق على مواد السنوات التي مَضَتْ ، وما مضاعفة الجهد إلاّ من أجل تفادي الأخطاء المُقصِية عند المِحكّ بالسقوط فيها وتصليحها ما دام هناك فرصة للتّراجع والإستدراك . هو ترقيةٌ للمستوى ، وتسطيرُ طريق آمنٍ ، خالٍ من العراقيل قدر الإمكان ، ضامنٍ للوصول .
التغيير الآخر هو الحريّة في تقسيم أوقات المراجعة طيلة تلك السّنة ، وزيادة مدّتها حسب الضرورة . وما دامت الفترة محدّدة ، فالواجب على كلّ طالب تحمّل عبئا أكبر منها ، وتذكّر - عند الإحساس بالإرهاق ، والحاجة إلى التوقّف - عظم الهدف المنشود ، ومرارة الفشل التي تفوق بأضعاف مضاعفة مرارة التعب والسهر . وغنيّ عن القول أنّ المقاومة يجب أن تكون في حدود المعقول ، وأنّ ما نقصده هو أنّ تلك الأحاسيس هي بدايات إملاءات النفس التي لو كان الأمر لها لَمَا تحرّكَ مفصل في الإنسان لِبَذْل مجهود ، وهي إملاءات زائفة يجب تجاهلها ، والمُضِيّ قُدُماً لأن ثمرة المجهود كامنة فيما بعدها : هناك صلابة العزيمة ، وقوّة الثقة بالنفس ، وتذليل الصعاب . أيّها الطالب ، إنّ كل توقّف عند هذه النقطة هو تفويت صريح لالتقاط كنز في متناول اليد ، وتضييع قطوف دانية من ثمار النواميس الإلهية التي لا تتخلّف أبدا .
تنبيه هامّ
المراجعة الجماعية مفيدة لكن في حدود ، وهي لا تغني عن المراجعة الفردية ، ونحذّر الطلاّب من الإعتماد عليها وحدها للتّحضير لأيّ امتحان كان بدون استثناء لأنّها تُعطي انطباعا مغلوطا بالفهم والسيطرة على المادّة المدروسة سيطرة كليّة ، ولا تظهر نقائصها إلاّ عند نقطة اللاّرجوع حيث لا يفيد التراجع .
ويعود جانب القصور في المراجعة الجماعية في كونها تحرم الطّلبة من التدرّب على خوض مصاعب المواد بأنفسهم ، بفكرهم وجهودهم وتوظيف طاقاتهم الخاصّة ، وتفوّت عليهم فرصة تذوّق المسؤولية تطبيقا ، فَهُمْ بها يفقدون الكثير مثلما يستفيدون .
إنّ الوحيد المستفيد من المراجعة الجماعية استفادة كاملة هو من يترأس الجماعة ، وهو في العادة أذكاهم ، لأنه المبادر بالحلول وكتابتها ، وتفسير ما أشكل من المسائل للحضور ، وهو ما يعادل - بالنسبة له - أكثر من المراجعة الفردية .
هل أعني بذلك إلغاء المراجعة الجماعية جملة وتفصيلا ؟
لا ، أبدا ! لكن يجب أن تتمّ بشروط ، وأهمّها أن أن لا تحجب الطّالب عن مراجعته الفردية ، وأن لا تأخذ من زمن المراجعة الكلّي سوى قسط صغير قدر ما يسمح للطالب للإحتكاك المفيد بمن هو أشدّ تفوّقا منه ، وأن تكون أدوار التصدّر لحلّ المسائل تناوبية . وليعلم الأخ الطالب الكريم أن دروس الإستدراك تحت إشراف أساتذته ، أو آلية استشارتهم في كل ما يشكل بانتظام هو أنجع بكثير من ألف مراجعة جماعية .
أيها الإخوة الكرام ، لا يجب أن تفهموني خطأ . فأنا بقولي هذا لا أتحدّث عن العمل الجماعي بمعناه الفلسفي الواسع الذي لا شكّ في جدواه والحاجة الماسّة إليه ، ولكنّي أحذّر من مغبّة تصرّف قد تتشابك خيوط المنفعة فيه مع خيوط المضرّة ، ثم تفضي إلى ما لا يحمد عقباه .
تعلّـم لـغـة
اللغة ليست فقط مفردات ، وتعلّم لغة وإتقانها لا يعني بأيّ حال حفظ محتويات قواميسها . المفردات أواني تحمل المعاني ، والفكر الإنساني معاني متراصّة ومتسلسلة تكوّن معنى أكبر .
ولذلك ، فإنّ تعلّم لغة من اللغات ، وإن كان يمرّ من تعلّم مفرداتها ، فإنّه يعتمد اعتمادا رئيسيّا على على آليات ربطها ببعضها لتوظيفها في إبراز المعاني المراد توصيلها ، ومخاطبة الناس بها .
والمخطط الذي سنضعه ينطبق على أيّ لغة بشرط أن يكون المتعلّم حائزا على المبادئ الأولى للّغة المعنيّة ، أيّ أن يكون له سابق معرفة بأبجديتها ، وجملة من مفرداتها ، وشيء من مخارج ونطق حروفها ، وبعبارة أخرى ، هو مخطّط لتحسين العلم بتلك اللغة ، وإتقان استعمالاتها .
الموضوعية
1.
يجب العلم بأنّ فنّ تعلّم اللغات موهبة ربّانية ، مثلها مثل موهبة الخطّ ، والشعر ، والرسم ، الخ... . نقول هذا لنشير إلى عدم التأثّر سلبيا بالتفاوت المحتوم في الفهم والإستجابة بين متعلّم وآخر . قبل البداية إفهم نفسك ، وضَعْهَا في خانتها التي تستحقّها ، وابْنِ مخطّطكَ على تلك الأسس .
2.
عدم التأجيل بالمبالغة في تحضير كلّ الوسائل ، وتكديس المراجع ، لأنّ ما تحتاجه حقّا هو : نصّ ، وقاموس مزدوج أو في نفس اللغة ، وقلم رصاص ، ودفتر .
تحتاج لنصّ ، وقاموس ، وقلم رصاص ، ودفتر عادي .
الوقت
تحدّد مدّة دراسة اللغة على ضوء ظروف المتعلّم ، بالنظر إلى مستواه المكتسب فيها ، ودوافعه في تعلّمها لأنّ باختلاف الدوافع تختلف سرعة وتركيز التعلّم . لكنّنا سنعتبر أن كلّ من أراد تعلّم لغة فلِدافِعٍ به ما يكفي من مسبّبات الإهتمام البالغ ، وننطلق من مستوى بسيط ، وسنقسّم فترة التعلّم إلى ثلاث مراحل :
*
المرحلة الأولى : وتدوم ستة أشهر ، وبثلاث حصص متفرقة في الأسبوع ، زمن كل حصّة من 45 إلى 60 دقيقة .
*
المرحلة الثانية : وهي مرحلة بداية التفتّح ، والتأقلم مع اللغة وأسرارها ، وتدوم سنة كاملة ، بنفس عدد الحصص والزمن .
*
المرحلة الثالة : وهي مرحلة الإتقان والتحكّم ، وحدّها ما تبقّى من العمر ، تعمّقا وممارسة .
المرحلة الأولى
لمدّة 6 أشهر ، وثلاث حصص في الأسبوع ، و من 45 إلى 60 دقيقة لكلّ حصّة .
المرحلة الثانية
لمدّة سنة ، وثلاث حصص في الأسبوع ، و من 45 إلى 60 دقيقة لكلّ حصّة .
المرحلة الثالثة
مدّة الحياة ، من غير تحديد
والزمن الذي حدّدناه هو أقلّ ما يجزئ للحصول على نتيجة في تلك 18 شهرا بين المرحلة الأولى والثانية ، ولكل واحد الحريّة في الزيادة على نفس المنوال ، كتنويع المطالعات والمشاهدات، أو وفق غيره إذا صادف فرصا تنقله نقلة نوعية كمعاشرة من يتكلّم تلك اللغة مثلا . ويجب الحذر من ثقل التكلّف ، والإنقياد وراء سراب التسرّع وحرق المراحل بحجّة طيّ المدّة ، لأنها كلّها أسباب تؤدّي إلى توقّف المشروع برمّته .
الجدّية
تحضير ما يجب لدراسة اللغة المختارة :
*
قاموس متوسّع مزدوج يكون الشرح فيه بلغة المتعلّم .
يقول البعض إن في القاموس المزدوج حرمانا للمتعلِّم من تعوّد التفكير باللغة المنشودة ، والأفضل استعمال قاموس يكون شرح المفردات فيه بها . وهذا كلام صحيح ، لكنه لا يناسب المبتدئين ، لأن رصيدهم اللغوي لا يزال هزيلا ، واستعمال هكذا قواميس مضرّ بهم كون فهم الشروح يتطلّب فهماً لتلك اللغة ، وهو ما لا يليق إلاّ بمن قطع شوطا كبيرا في التحصيل ، ويصبو إلى نقلات نوعية كالتخصّص مثل . ثم إنّ أثر ذلك الحرمان قابل للمحو إذا تقيّد المتعلّم حقّا بما ننصحه به ، وثابر حتى يصل إلى درجة الإطّلاع على آداب تلك اللغة ، وأعمال الكتّاب من أهلها .
إذا كنتَ عربيّاً وأردتَ مواصلة تعلّم اللغة الفرنسية فلا بد لك من قاموس فرنسي - عربيّ على الأقلّ .
*
نصوص بسيطة وقصيرة من كتب قصص الأطفال أو برامج السنوات الإبتدائية إن لزم الأمر . الشيء الأهمّ في الأمر هو الصدق مع النفس ، وعدم التحرّج من التنزّل إلى مستويات دنيا . فإذا أحسّ المتعلّم أنّ مستوى مّا لم يعد مستعص عليه ، فلَهُ أن ينتقل تدريجيا إلى الذي يليه .
*
النظر في القاموس ليس فقط من باب فهم معنى الكلمات ، لكن أيضا بالتنبّه إلى ما يشير إليه من معارف إملائية ، ونحوية ، وصرفية ، إمّا مباشرة على الصفحة المفتوحة ، أو بالإحالة إلى الملاحق والجداول المرافقة . إنّ كلّ تعلّم بغير هذه الضوابط هو أقرب إلى الحديث الدّارج الذي لا تحتاج حيازته سوى إلى الإختلاط بأهله مدّة ، وليس هذا هو هدفنا .
*
عدم الرضوخ للصعوبات في البداية ، وعدم اليأس من بطء التقدّم واستعصاء الكثير عن الفهم ، وعدم الإستسلام للملل من التنقل الدائم من النص إلى القاموس ثم نسيان معاني الكثير من الكلمات والعبارات عند مصادفتها مرّات أخرى خلال المطالعة . ولتهوين الصعوبات بعض الشيء ننصح بما يلي :
o
إختيار نصوص قصيرة ، أو فقرات موجزة سهلة
o
تدوين معنى الكلمات باللغة الأم للمتعلِّم في دفتر وعلى صفحة مستقلّة لكلّ نصّ ، وبأمثل طريقة يختارها المتعلم بنفسه ، حتى إذا عاد إليها فهم قصده ومصطلحاته .
o
معاودة ما كتب مرّات حتى يرسخ في الذهن أكبر قدر من المعاني
وتكون المطالعة على الطريقة التالية :
*
قراءة النص أو الفقرة مرة قراءة كاملة ، وتقييم درجة الفهم الإجمالي .
*
بداية قراءته ودراسته جملة جملة ، لا ينتقل من واحدة حتى لا يبقى فيها شيء غامض ، إلاّ ما احتاج فعلا إلى استشارة مطّلِعٍ
*
وضع سطر بقلم الرصاص ( إن أمكن ) تحت كلّ كلمة غير مفهومة في الجملة المعنية عند قراءتها من الأوّل إلى الآخر ، ثمّ محاولة استقرائها واستنتاج معناها بما تيسّر له من مكتسبات سابقة .
*
البحث عن معنى كلّ كلمة غير مفهومة في القاموس ، وتسجيل ما يعين على تذكّرها في الدفتر المصاحب .
*
إعادة قراءة الجملة المفهومة عددا من المرات .
*
تنويع المواضيع من أجل إثراء متوازن للرصيد اللغوي في كل مناحي الحياة ( رياضة ، مجتمع ، اقتصاد ، سياسة ... ) . سوف تحسّ من حصّة إلى حصّة بنتيجة مجهودك ، وتتلذّذ بثمرة مثابرتك ، وتغمرك السعادة عند مصادفتك كلمات لم تعد في حاجة لقاموسك لفهمها ، وهو دليل على بداية تسارع التذكّر والإستحضار الناجم عن الممارسة المستمرّة ، والمكث الطويل . ومن بين ما سيثير انتباهك النقص التدريجي للكلمات المسطّرة في نصوصك وصفحات كتابك ، وهي إشارة وبشارة لا ريبة فيها على صحّة وجهتك .
سوف تحس بعد المرحلة الأولى بالقدرة على كتابة موضوع بسيط ، وحرية مناورة ولو نسبية في استعمال ما اكتسبتَ ، بل والتكلّم يتلك اللغة بثقة متزايدة لأنّ غشاوة الجهل بما لا يستهان به من مفرداتها وأساليبها قد انقشعت . سوف تتفتّح آفاق أخرى بداخلك على أنماط أخرى من التفكير تقوّي من دوافعك للمواصلة .
من أسبوع لآخر تتضاعف نسب التحصيل ، وتسهل العملية كلّها حتى يتحوّل ما كان يمثّل عذابا قبل فترة إلى نعيم وساعة حبور . إنّها سعادة الأنس الداخلي الذي يرسيه العلم والإطّلاع والمعرفة ، وسعادة تذوّق الشعور بالرقيّ من خلال إنجاز المفيد النافع .
بعد ثمانية عشر شهرا تحين ساعة الفطام ، ويتحرر المتعلم من عيون المخطط الصارمة ، ويطير البلبل بجناحيه محلّقا في فضاء رحب شاسع لا حدود له . فضاء جميل ، وغني بما لذّ وطاب من الأغذية ، يصيب السابح فيه بالحيرة في كيفيات الإختيار . هناك ، وفقط هناك ، تحسّ بغبن تضييع أوقات مضتْ ، والندم على فرص أهدرت في توافه الأمور ، وطاقة تخطّفها التبذير إلى غير رجعة . هناك تحسّ بقلّة الوقت ، وحجم الآمال ، وتكتشف غفلة النائمين من حولك من الغرقى في " اللاّشيء " .
إنها استفاقة . ونعمت الإستفاقة مهما تأخّرتْ .
ملاحظة
لقد أسقطتُ عمدا ذكر الوسائل العصرية في تعلّم اللغات مثل الوسائل السمعية البصرية ، والمدارس الخاصة ، والأنترنت ، لأني أردتُ أن أثبت أنه بأقلّ القليل ممّا يملكه الجميع نستطيع إحراز نجاح باهر .
وأردتُ كذلك عرض أسلوب كفاح يعين على إتقان البحث في القواميس ، وخلق مهارات فردية في البحث ، واحتكاك مباشر مع النصوص بالعين واليد والنطق من أجل تثبيت أمتن للمعلومات .
وتبقى على أية حال كلّ الأبواب مفتوحة لمن تيسّرت له الوسائل لخوض التجربة بما يراه مناسبا من المصادر التي ذكرناها .